ما هي الأسباب التي تؤدي إلى قلب الحديث سنداً أو متناً؟
هذا راجع إلى حال الرواة: فإن وقع من رجل سيء الحفظ: علمنا أنَّ ذلك راجع إلى سوء حفظه، وأنَّه لم يتعمد ذلك، بل وقع منه على سبيل الوهم، وإن وقع هذا من كذاب سارق: علمنا أنَّ ذلك راجع إلى سوء حفظه، وأنَّه لم يتعمد ذلك، بل وقع منه على سبيل الوهم([1])، وإن وقع هذا من كذاب سارق: علمنا أنَّ ذلك وقع منه عمداً، وقصد بذلك الإغراب، وادعى ما لم يسمع، ليرحل المحدثون إليه([2])، وإذا وقع هذا من أحد الأئمة النقاد: علمنا أنَّه قصد اختبار ضبط الراوي، وهل هو ممن يتقن الحديث، أو يقبل التلقين، أو غير ذلك؟ لكن في جواز هذه الحالة خلاف، واشترطوا لجوازها أن يبين الناقد أن الحديث مقلوب، كي لا يتحمله الجالسون وهو مقلوب[3]، والله أعلم.
([1]) قال الحافظ ابن حجر في «النكت» (2/874): ومن أمثلته في الإسناد ما رواه ابن حبان في «صحيحه» من طريق مصعب بن المقدام عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر – رضي الله عنه – قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يمس الرجل ذكره بيمينه».
قال أبو حاتم في «العل»: وهذا وهم فيه مصعب، وإنّما حدث به الثوري عن معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه.
هذا وقد سرد الحافظ – رحمه الله – جملة من الأمثلة على المقلوب في الإسناد والمتن (2/874-886) فليراجعها من شاء والله أعلم.
([2]) قال الحافظ ابن حجر في «النكت» (2/864-866): فممن كان يفعل ذلك عمداً لقصد الإغراب على سبيل الكذب: حماد بن عمرو النصيبي وهو من المذكورين بالوضع.
من ذلك روايته عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إذا لقيتم المشركين في طريق فلا تبدؤوهم بالسلام...» الحديث.
فإنَّ هذا الحديث قال العقيلي: لا يعرف من حديث الأعمش وإنَّما يعرف من رواية سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه -.
قلت: كذلك أخرجه مسلم وغيره.
فجعل حماد بن عمرو الأعمش موضع سهيل ليغرب به، هذا في الإسناد.
وأما في المتن، فكمن يعمد إلى نسخة مشهورة، بإسناد واحد فيزيد فيها متناً أو متوناً ليست فيها، كنسخة معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – وقد زاد فيها وكنسخة مالك عن نافع عن ابن عمر – رضي الله عنهما – زاد فيها جماعة عدة أحاديث ليس منها، منها القوي والسقيم وقد ذكر جلّها الدارقطني في غرائب مالك. اهـ.
وانظر «توضيح الأفكار» (2/102)، الله أعلم.
[3] قال الحافظ بان حجر – رحمه الله – في «النكت» (2/866): وممن كان يفعل ذلك لقصد الامتحان كان شعبة يفعله كثيراً لقصد اختبار حفظ الراوي، فإنّّ أطاعه على القلب عرف أنَّه غير حافظ، وإن خالفه عرف أنَّ ضابط وقد أنكر بعضهم على شعبة ذلك لما يترتب عليه من تغليط من يمتحنه فقد يستمر على روايته لظنه أنَّه صواب، وقد يسمعه من لا خبرة له فيرويه ظنّاً منه أنّه صواب لكن مصلحته أكثر من مفسدته. اهـ.
وفي «النزهة» (ص:127) قال: وشرطه أن لا يستمر عليه، بل ينتهي بانتهاء الحاجة. اهـ.
وممن فعل ذلك يحيى بن معين مع أبي نعيم الفضل بن دكين بحضرة أحمد بن حنبل، وروى الخطيب من طريق أحمد بن منصور الرمادي، قال: خرجت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلى عبدالرزاق، فلما عدنا إلى الكوفة، قال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل: أريد أن أمتحن أبا نعيم فنهاه أحمد فلم ينته، فأخذ ورقة فكتب فيها ثلاثين حديثاً من حديث أبي نعيم وجعل على رأس كل عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديثه، ثم أتينا أبا نعيم، فخرج إلينا فجلس على دكان حذاء بابه، وأقعد أحمد عن يمينه، ويحيى عن يساره، وجلست أسفل، فقرأ عليه يحيى عشرة أحاديث وهو ساكت، ثم الحادي عشر، فقال أبو نعيم: ليس هذا من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشرة الثانية وقرأ الحديث الثاني فقال أيضاً: ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشرة الثالثة، وقرأ الحديث الثالث، فتغير أبو نعيم ثم قبض على ذراع أحمد فقال: أما هذا فورعه يمنعه عن هذا، وأما هذا وأومأ إلى فأصغر من أن يعمل هذا، ولكن هذا من عملك، يا فاعل، ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين وقلبه عن الدكان وقام فدخل داره، فقال له أحمد: ألم أنهك؟ وأقل لك: إنّه ثبت؟ فقال له يحيى: هذه الرفسة أحب إليّ من سفري. انتهى من «النكت» (2/866-867).
وفي «سير أعلام النبلاء» ترجمة الحسن بن سفيان (14/158-159):
قال الحاكم: سمعت محمد بن داود بنِ سليمان يقول: كنّا عندّ الحسن بن سفيان، فدخل ابن خزيمة، وأبو عمرو الحيري، وأحمد بنَ علي الرازي، وهم متوجهونَ إلى فرواة، فقال الرازي: كتبت هذا الطبق من حديثك، قال: هاتِ، فقرأ عليه، ثم أدخل إسناداً في إسناد، فردَّه الحسن، ثم بعد قليل فعل ذلك فردَّه الحسن، فلمّا كان في الثالثة، قال له الحسن: ما هذا؟! قد احتملتك مرتين وأنا ابن تسعين سنة، فاتَّقِ الله في المشايخ، فربّما استجيبت فيك دعوة، فقال له ابن خزيمة: مه! لا تؤذِ الشيخ، قال: إنَّما أردت أن تعلم أنَّ أبا العباس يعرف حديثه.
وانظر في هذا الباب حكايات أخرى في «السير» (15/237)، و«النكت» لابن حجر (2/868-873)، وفي «فتح المغيث» للسخاوي (1/301-302) والله أعلم.