مَالِي وَلِلْدُنْيَـــا ؟!
قال تعالى:
(( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلّا الحْيَاةَ الدّنْيَا* ذَلِكَ مَبْلَغَهُمْ مِنَ العِلْم ))
[النجم: 29-30]
وفي "الصحيحين": قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع؟"
وروى مسلم فى صحيحه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"
وفى حديث آخر:
"لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء".
رواه الترمذى وصححه.
قيل: إن عيسى عليه السلام رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء (ليس لها أسنان) عليها من كل زينة. فقال لها: كم تزوجت؟ قالت: لا أحصيهم. قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك؟ قالت: بل كلهم قتلت، فقال عيسى عليه السلام: بؤساً لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين، كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد، ولا يكونون منك على حذر.
وروى ابن عباس رضي الله عنه قال: يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطا ء زرقاء أنيابها بادية، مشوه خلقها، فتشرف على الخلق، فيقال: هل تعرفون هذه؟ فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه .
فيقال : هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها وبها تقاطعتم الأرحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم تقذف في جهنم، فتنادى: يا رب أين أتباعي وأشياعي؟ فيقول: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها.
فاعلم أيها الحبيب أن العمر قصير والموت آتٍ، وكل آت قريب، ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن لها، ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضرر وضيق، أو سعة ورفاهية، ولهذا لم يضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبنة على لبنة ، ولا قصبة على قصبة وقال:
"مالي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكبٍ قَالَ ((من القيلولة))تحت شجرة، ثم راح وتركها".
وقال عيسى عليه السلام: " الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها".
هذا مثل واضح، فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة، والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة، واللحد هو الركن الثاني على آخر القنطرة.
ومن الناس من قطع نصف القنطرة، ومن الناس من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها، وكيفما كان فلا بد من العبور، فمن وقف يبنى على القنطرة ويزينها وهو يستحث للعبور عليها، فهو في غاية الجهل والحمق.
وقيل: مثال طالب الدنيا، مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شراباً ازداد عطشاً حتى يقتله.
وكان بعض السلف يقول لأصحابه: انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول: انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم.
ولا يحملنك بغض الدنيا أن تجهل حق نفسك، ولا يحملنك حبها أن تجهل حق ربك، وابتغ بين ذلك سبيلاً وسطا، وانظر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام فإنهم ما كان لهم إفراط في تناول الدنيا ، ولا تفريط في حقوق النفس.
فحسبك من الدنيا قدر ما تحتاج إليه من الزاد ، ولتجعل همك هناك ، حيث الجنة.
انتهى ؛
((من مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي / ربع المهلكات ؛ باب ذم الدنيا / بتصرف يسير))